الطب في مصر القديمة: اكتشاف الامراض والعلاجات في زمن الفراعنة

تقدم مصر القديمة، بحضارتها العريقة التي ازدهرت على ضفاف نهر النيل، لمحة رائعة عن الممارسات الطبية في العصور القديمة. بالرغم من قدم هذه الحضارة، امتلك المصريون القدماء مجتمعًا منظمًا يتمتع بأدوات مثل الكتابة والرياضيات، مما مكنهم من تدوين وتطوير أفكارهم حول الطب.
إن دراسة الطب في مصر القديمة تحمل أهمية كبيرة لما تقدمه من رؤى تاريخية وعلمية. حيث توفر مصر مجموعة متنوعة من المصادر القديمة البيولوجية والكتابية والفنية، التي تساهم في تكوين صورة كاملة عن الأمراض التي عانت منها تجمعات سكانية محددة . وتتجلى المعرفة الطبية للمصريين القدماء في ثلاثة مصادر تاريخية رئيسية:
- الفنون البصرية .
- البرديات الطبية.
- البقايا البشرية (المومياوات).
اكتشاف الامراض والعلاجات في زمن الفراعنة
المعتقدات المحيطة بالمرض في مصر القديمة
لعبت الخرافات والدين دورًا محوريًا في فهم أسباب الأمراض في مصر القديمة. فقد اعتقد المصريون القدماء أن الأمراض والآلام ناتجة عن قوى خارقة للطبيعة، مثل الآلهة أو الشياطين المعادية. وكان أول “طبيب” في الواقع ساحرًا يستخدم التعاويذ، لاعتقادهم بأن المرض ينشأ عن دخول قوة شريرة إلى الجسد . كما ربطوا الصحة والمرض بعلاقة الفرد بالكون، بما في ذلك الأرواح.
وفي بعض الأحيان، كان ينظر إلى المرض على أنه نتيجة للخطيئة، أو هجوم شيطاني، أو فعل شبح غاضب، أو درس من إله. وكانت الإلهة سخمت، التي غالبًا ما تصور على هيئة أنثى أسد، تعتبر مسؤولة عن الشياطين التي تسبب الأوبئة، والتي كانت تصور أحيانًا على أنها سهام تنطلق من أفواه شياطين الرياح.
بالإضافة إلى ذلك، اعتقد المصريون القدماء بوجود أيام معينة في السنة منحوسة أو مشؤومة، يعتقد أنها تجلب أحداثًا سيئة، بما في ذلك انتشار الأمراض. وكانت الأيام الخمسة الإضافية في نهاية السنة المصرية تعتبر أيامًا مشؤومة بشكل خاص، حيث كان يعتقد أن الأوبئة يمكن أن تحدث فيها.
كما وجدت تقاويم للأيام المحظوظة وغير المحظوظة، وكان يعتقد أن الأحداث المؤسفة من المرجح أن تحدث في الأيام غير المحظوظة، مما استدعى الحذر خلالها. كما ربطوا بين الأوبئة والمجاعات وانخفاض فيضان النيل.
ومع ذلك، تطور فهم المرض تدريجيًا من الاعتقادات الخارقة للطبيعة نحو ملاحظات أكثر تجريبية. فبينما كانت القوى الخارقة للطبيعة تلام في كثير من الأحيان، ظهر أيضًا نهج عقلاني مع اكتشاف علاجات فعالة.
يذكر إمحوتب بأنه بدأ “الطب العلماني” من خلال القول بأن المرض يحدث بشكل طبيعي وليس عقابًا إلهيًا فقط . وتشير بردية إيبرس إلى أن الجسم يتكون من نظام من الأوعية (mtw) تحمل مواد مختلفة، وأن المرض يحدث عندما تسد هذه الأوعية بمواد ضارة (wekhedu).
بالكتابة الفرعونية، نظام من الأوعية هي متو – mtw، والمواد الضارة هي ويكيدو – wekhedu. يوجد لدينا في عالم أوزير نظام تعلم الكتابة الهيروغليفية من قبل خبراء ومتخصصين.
تعكس “نظرية القنوات” هذه محاولة مبكرة لتقديم تفسير فسيولوجي للمرض. وغالبًا ما كانت الأدوية تهدف إلى تخفيف الأعراض بدلًا من العلاج، حيث كانت أسباب معظم الأمراض غير معروفة.
المصادر الرئيسية للمعرفة الطبية من مصر القديمة
البرديات الطبية
تعتبر البرديات الطبية المصدر الأهم للمعلومات حول الطب في مصر القديمة. وتكشف دراسة البرديات الهامة مثل بردية إيبرس وبردية إدوين سميث عن مساهمات فريدة في فهمنا للطب القديم.
بردية إيبرس
تعد بردية إيبرس (حوالي 1550 قبل الميلاد) واحدة من أقدم وأشمل النصوص الطبية. حيث تحتوي على أكثر من 700 وصفة طبية وصيغة سحرية لمجموعة واسعة من الأمراض، بما في ذلك السرطان (مع ملاحظة أنه لا يمكن فعل شيء حياله)، وأمراض القلب، والاكتئاب، والسكري، ومنع الحمل، ومشاكل الجهاز الهضمي، والتهابات المسالك البولية. كما تصف “كتاب القلوب” الذي يغطي إمدادات الدم والأوعية الدموية.
بردية إدوين سميث
أما بردية إدوين سميث (حوالي 1600 قبل الميلاد) فتركز على الصدمات والجراحة، وتقدم نهجًا منهجيًا لتشخيص وعلاج الإصابات المختلفة (48 حالة)، والكسور، والجروح، والخلع، والأورام . وتعتبر أقدم عمل معروف في مجال الجراحة، وتظهر نهجًا عقلانيًا وعلميًا للطب. وتتضمن أولى الأوصاف المعروفة للهياكل القحفية، والسحايا، والسطح الخارجي للدماغ، والسائل النخاعي الشوكي، والنبضات داخل الجمجمة.
كما قدم الفن المصري القديم ومصادر مثل المومياوات والبقايا البشرية دليلاً واضحاً على الأمراض التي عانى منها المصريون. فقد ساعدت الفحوصات الحديثة، مثل الأشعة المقطعية، في اكتشاف العديد من الحالات المرضية وتوثيقها. لقد تشكلت المعرفة الطبية في مصر الفرعونية من خلال برديات عدة، كان أبرزها:
- بردية “إدوين سميث”.
- بردية “إيبرس”.
- بردية “كارلسبرج”.
- بردية “كاهون”.
- بردية “شستر بيتي رقم 10”.
- بردية “لندن الديموطيقية”.
- بردية “جولنشيف”.
- برديات المشايخ وغيرها.
الأمراض التي شخصت في مصر الفرعونية
كشفت دراسة المومياوات والبقايا الأثرية في مصر القديمة عن مجموعة متنوعة من الأمراض التي عانى منها المصريون القدماء. فقد أظهرت الفحوصات وجود تصلب الشرايين وأمراض القلب، حيث عثر على أول حالة موثقة لتصلب الشرايين في أميرة مصرية عاشت بين عامي 1580 و 1550 قبل الميلاد.
كما تبين أن أمراض الرئة كانت شائعة، وقد عثر على آثار لملوثات الهواء الناتجة عن حرق الوقود في رئتي مومياء عمرها 3800 عام. بالإضافة إلى ذلك، وجدت أدلة على الإصابة بمرض الجدري في مومياء رمسيس الخامس، وانتشار مرض السل الذي تم اكتشافه في أنسجة الرئة وعينات المرارة.
أما بالنسبة لأمراض العظام، فقد أشارت الدراسات إلى وجود حالات يشتبه في إصابتها بشلل الأطفال والتهاب المفاصل، وحتى سرطان العظام. وعلى صعيد الأورام، كانت الأدلة أقل، ربما بسبب قصر متوسط العم، ولكن تم العثور على أورام حميدة في الرحم وسرطان الثدي والقولون والمستقيم.
مومياوات مصرية ظهرت بها اعراض المرض
- انسداد الشرايين، كما في حالة الأميرة “أحمس مريت أمون“.
- مومياء “نخت-عنخ“، التي يعود عمرها إلى حوالي 3800 سنة. لقد عانت من مشاكل تنفسية نتيجة لتراكم الجسيمات الملوثة الناجمة عن حرق الوقود.
- مرض الجدري: يعتقد أنه كان ينتقل من المواشي، ومن أشهر الحالات مومياء “رمسيس الخامس“.

العقاقير والأساليب العلاجية في مصر القديمة
استخدم الأطباء في مصر القديمة مجموعة متنوعة من العقاقير والأساليب العلاجية، والتي تم توثيقها بشكل رئيسي في البرديات الطبية. لقد اعتمدوا بشكل كبير على العقاقير النباتية، التي شكلت حوالي خمسة أسداس مجموع الأدوية المستخدمة.
العقاقير النباتية
كانت الأعشاب والنباتات عنصرًا رئيسيًا في علاج الأمراض:
- نبات الخروع: استخدم لمعالجة أمراض متعددة، واستخدمت بذوره كمليّن ممزوج مع الجعة.
- نبات الخس: ذو أهمية دينية، مرتبط بالإله “مين” ومستخدم في الطقوس الدينية.
- الخشخاش والرمان: استخدم الخشخاش لتسكين الآلام والرمان لمعالجة الجروح والحروق وأمراض النساء.
كما كانت هناك مواد أخرى مثل الحناء والخمائر والراتنجات المتنوعة. أما الحلبة فقد ورد ذكرها على إنها تعيد الشباب.
العقاقير الحيوانية
- الكبد: وصف نيئًا أو مجففًا لعلاج فقر الدم وأمراض العيون.
- العسل: استخدم كمضاد حيوي طبيعي لعلاج الجروح.
الجراحة الفرعونية
بالإضافة إلى العقاقير، مارس المصريون القدماء الجراحة لعلاج بعض الحالات. تعتبر بردية إدوين سميث أقدم عمل جراحي معروف، حيث تصف بالتفصيل 48 حالة من الإصابات والجروح والكسور والخلع والأورام.
وتظهر هذه البردية نهجًا عقلانيًا وعلميًا في التعامل مع الإصابات، وتقدم أول وصف معروف للهياكل القحفية والسحايا والدماغ والسائل النخاعي الشوكي. كما تصف البردية إجراءات جراحية واقعية، مما يدل على مستوى متقدم من المعرفة الطبية في ذلك الوقت.
تشير البرديات الطبية الأخرى مثل بردية إيبرس إلى إجراءات جراحية بسيطة مثل شق الخراجات وإزالة الأورام الصغيرة. وقد تم العثور على أدوات جراحية محتملة في المواقع الأثرية، بالإضافة إلى تصوير لمثل هذه الأدوات على جدران المعابد، مثل معبد كوم أمبو. ومع ذلك، لا يوجد دليل قاطع على نطاق واسع للجراحة المعقدة، ربما بسبب محدودية الأدلة الأثرية والنصوص الطبية الباقية.

الوقاية من الأمراض في زمن الفراعنة
أدرك المصريون القدماء أهمية النظافة في الحفاظ على الصحة والوقاية من الأمراض. فكانوا يستحمون بشكل متكرر، ربما يوميًا، باستخدام الماء من نهر النيل. كما استخدموا مواد طبيعية مثل النطرون كنوع من الصابون. ونصح الأطباء بغسل وحلاقة الجسم، بما في ذلك منطقة الإبط، لمنع العدوى.
كما أولوا اهتمامًا خاصًا بنظافة الفم والأسنان، حيث اخترعوا معجون الأسنان واستخدموا أغصان الأشجار لتنظيفها. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك بعض الإجراءات الوقائية المتعلقة بالنظام الغذائي، مثل تجنب تناول الأسماك النيئة والحيوانات التي تعتبر غير نظيفة.
على الرغم من أنهم لم يفهموا تمامًا مفهوم الجراثيم، إلا أن تركيزهم على النظافة الشخصية ساهم بشكل كبير في الحد من انتشار الأمراض . كما أنهم اتخذوا تدابير لحماية أنفسهم من مياه النيل الملوثة، حيث نصح الرجال الذين يتعاملون مع النهر بارتداء أغطية من الكتان على الأعضاء التناسلية كإجراء وقائي.
ملخص
قدمت الحضارة المصرية القديمة مساهمات هامة في مجال الطب، حيث وثقت البرديات الطبية والبقايا الأثرية معارفهم حول الأمراض والعلاجات. وبينما كانت المعتقدات الدينية والخرافات تلعب دورًا في فهم أسباب الأمراض، تطور لديهم أيضًا نهج عملي وعلمي في التشخيص والعلاج.
فقد شخصت العديد من الأمراض مثل أمراض القلب والرئة والجدري والسل وأمراض العظام والأورام. واستخدم المصريون القدماء مجموعة واسعة من العقاقير النباتية والحيوانية، بالإضافة إلى إجراء العمليات الجراحية الموضحة في البرديات الطبية، مما يدل على تقدمهم في هذا المجال في العصور القديمة. كما أظهروا وعيًا بأهمية الوقاية من الأمراض من خلال ممارسات النظافة الشخصية والتدابير الصحية الأخرى.